السبت، 15 أغسطس 2009

أهمية علم الجغرافيا

أهمية علم الجغرافيا
إن الجغرافيا لم تعد ذلك العلم الذي يهتم بوصف الظواهر وصفا سطحيا بعيدا عن الواقع بل أصبحت ذلك التخصص الذي يتماشى والتطور العلمي الحديث المعتمد على التحليل والقياس والربط واستخدام النماذج والنظريات الحديثة وبذلك صارت في الاتجاه التطبيقي الذي يعرف اليوم بالجغرافيا الكمية والجغرافيا التطبيقية التي ترفض أن تستمر بعيدا عن الإنشغالات الكبرى للإنسان وذلك لما تمتاز به الجغرافيا من قدرة على التأقلم مع مختلف العلوم فهي تمثل همزة وصل متينة بين هذه العلوم وهي تسخرها جميعا لخدمتها وتأخذ منها ما يخدمها ويميزها عن غيرها وقد شهدت السنوات الأخيرة تحولات كبيرة في المنهج الجغرافي والمحتوى العلمي وكذلك في الأساليب التي يعتمد عليها في تحقيق الأهداف والأغراض ، ولعل من أسباب هذه التحولات أيضا ما طرأ على المحتوى البشري من تطور كبير حيث اصبح الجغرافيون يعالجون مواضيع لم تكن بالأمس معروفة حتى وكأن المتتبع لأعمال الجغرافيين يلمس ذلك الاهتمام المتزايد بالتركيز على دراسة الظواهر والمواضيع الطبيعية والبشرية المختلفة بطريقة تختلف عما كانت عليه في الماضي بفضل استخدامهم للوسائل الكمية المتقدمة في أبحاثهم استعانة بالإحصاء والإعلام الآلي والرياضيات والنماذج والهندسة والطبيعة والكيمياء ، وكان لذلك التطور في استخدام مثل هذه الوسائل نتائج هامة أسفرت عن دفع عجلة الجغرافيا وجعلها علما يتماشى وعصر التكنولوجيا ،حتى أطلق البعض على هذا التحول في استخدام الوسائل والمناهج مصطلح ( الثورة الكمية في الجغرافيا ) ، وهذه الثورة لقيت ترحيبا كبيرا من الجغرافيين لأن للمنهج الكمي مزاياه كثيرة ولعلى أبرزها و أهمها أن النتائج التي يمكن التوصل إليها تكون اكثر دقة بفضل التحليل العلمي لتسلسل الأحداث وهذا التحليل العلمي الجغرافي يبرز النظم التي أثرت في وجود الظواهر المختلفة التي يتعرض لها الجغرافي بالدراسة ، فهو لا يكتفي بالوصف بقدر ما يعتمد على الأسباب التي أنشأت هذه الظواهر

مجالات البحث الجغرافي
حتى تكون الجغرافيا قادرة على تشخيص المشاكل التي تنحصر في إقليم ما، فإنها تقوم بتحديد المجال ، وتشرح العلاقات القائمة بين مختلف العناصر الطبيعية والبشرية مهما تداخلت فيما بينها. و نتيجة لذلك تعتبر الجغرافيا ذات خاصية متميزة إذ نجدها تضع قدما في العلوم الطبيعية وقدما في العلوم البشرية. فإذا كانت التصنيفات الحديثة لمواقع العلوم المختلفة قد تمت سنة 1972 و قسمتها إلي ثلاث فئات هي: العلوم التحليلية التجريبية ، والعلوم التفسيرية التأويلية والعلوم النقدية فالجغرافيا من بين العلوم التي تمتلك خواص كل هذه الفئات . فدراسة المجال الجغرافي تؤكد وجود مكونات كثيرة طبيعية وبشرية مترابطة تتميز بتفاعلات كثيرة تحصل بين هذه المكونات . وهو ما يجعل دور عالم الجغرافيا فيها حساسا ومهما ولذلك نجد دراسة المجال الجغرافي لا تقتصر على موضوع في حد ذاته أو على ظاهرة دون الأخرى و مع أن المجال الجغرافي يشمل كل الظواهر مجتمعة، فإن دراسة هذه الظواهر تبحث منفصلة مع قياس درجات التفاعل والتعليل والتحليل دون إهمال أي عنصر من عناصر المجال . و نظرا لأهمية المجال الجغرافي أقرت اليونسكو منهجية تدريسه في أوربا على تلامذة المستوى الابتدائي في حالته التطبيقية اعتمادا على فهم أو إدراك خمسة أسئلة كما هو موضح فيما يلي: المجال المنتج: إن مجرد اقتراحنا للتلاميذ الاستفسار عن الخطوات التي تتعلق بمفهوم المجال المنتج يعتبر مسلكا نحو إدراك الواقع أي الانتباه إلى أن كل مجال ما هو إلا حالة من أحوال الحركية (أي أنه في حالة إنتاج) وبالتالي هو نتاج لقرارات بشرية (تأثير التدخل البشري). و لهذا يتوجب علينا تعليمهم طرح الأسئلة التالية:
• مـن يُنشئ المجال
• لمن يُنشأ المجال
• لماذا يُنشأ المجال
• متى يُنشأ المجال
• كيف يُنشأ المجال
ومن الضروري أن يلاحظ التلميذ أن هذه الأسئلة الخمسة مرتبطة ببعضها البعض ارتباطا وثيقا بحيث نجد التلاميذ عند محاولتهم الإجابة عن السؤال الأول مثلا يكتشفون و يعرفون بأن هناك عدة فيئاك من الناس يحتمل أن تكون لها يد في هذا الفعل و ضمن إشكالية متكافئة لقدراتهم سيندفعون إلى تحديد و معرفة الفاعل الذي يصدر عنه الفعل (أهو أنا ؟ أهم أفراد آخرون؟ أم مجموعات أخرى أو مؤسسات أو جماعات محلية أم الدولة ؟). و هكذا يتوصل التلاميذ إلى وضع الأسئلة الأساسية التي ترتبط بتقسيم المجال تقسيما اجتماعيا وإدراك المنشأ الحقيقي للمجال ( أي مبادئ العدالة الاجتماعية المجالية)

الجغرافيا العامة و الجغرافيا الإقليمية في المنظور التقليدي
تتنوع الجغرافيا في المواضيع التي تدرسها و الطرق التي تنتهجها. تدرس الجغرافيا جميع المظاهر التي يتصف بها سطح الأرض طبيعية كانت أم بشرية وتنقسم إلى شعبتين أساسيتين متكاملتين اختلافهما قائم على تباين طرق المعالجة و المنهجية. الشعبة الأولى ممثلة في الجغرافيا العامة بكل أنواعها الطبيعية و البشرية و الاقتصادية...الخ و الثانية هي الجغرافيا الإقليمية. الاختلاف بينهما هو أن الأولى تدرس الأنماط و تبحث عن القوانين المتحكمة فيها في حين أن الثانية تعتني بإبراز المميزات التي ينفرد بها كل منظر و كل مركب إقليمي. تحلل الجغرافيا العامة العلاقات و الارتباطات لأنها تضع كل عنصر في قالبه العام خلال الدراسة, غير أنها لا تقارن أي ظاهرة إلا بظاهرة مماثلة لها تذكر تحت نفس العنوان, بينما تختص الجغرافيا الإقليمية بالبحث عن العلاقات و الارتباطات التي تصل بين الظواهر القائمة في الإقليم الواحد و تقارن بينها رغم التباين في طبيعتها و أنماطها و يكون هذا لإبراز الانفراد الذي يتميز به الإقليم مع الأقاليم الأخرى. الجغرافيا الإقليمية هي البحث التركيبي لقطعة من مجال الأرض, و مهمتها ليست بوضع كشف عام لمكونات هذه القطعة بل مهمتها هي البحث عن الطريقة التي نظم بها هذا المجال و كيفية استغلال الإنسان له. الإقليم : يطلق اسم إقليم على مجال من الأرض ينفرد ببعض المزايا و المقومات تجعله وحدة متكاملة و تميزه عما يجاوره من مجالات و يمتد بنفس الدرجة التي تمتد بها هذه الخصائص و هذه المميزات مع العلم أن مفهوم الإقليم نسبي و اجتهادي إن لم نقل ذاتي. نسبي إذا أخذنا بعين الاعتبار أنه لا يوجد على سطح الأرض منطقة تتشابه في كل مقوماتها مع منطقة أخرى مهما صغر حجمها و اجتهادي ذلك لأن الفرد هو الذي يقوم شخصيا بتحديد الإقليم عادة حسب ما يتراءى له من خصائص يقوم عليها هذا التحديد و بقدر تنوع الأسس التحديدية بقدر تنوع الأقاليم نفسها. تتغير الأسس التحديدية إما حسب المكان أو الهدف المرسوم للتحديد الإقليمي إذا وضع التحديد من أجل استغلاله في تصميم مخطط تنمية مثلا فعناصر الاستقطاب المدني أو درجة التطور الاقتصادي أو التقسيم الإداري الذي سيكون الإطار التنفيذي للمخطط هي التي ستتحكم في تعريف الإقليم و كذلك يلعب اتساع الفضاء المدروس دورا هاما في تحديد نظرة الباحث إلى المقومات لأن المقياس المستعمل في وضع البحث يختلف مع اختلاف درجة الاتساع فتدرس الوحدات الشاسعة بمقياس صغير و الوحدات الضيقة بمقياس كبير و الأمر الذي يكون هاما في المقياس الكبير قد لا يصبح كذلك إذا صغر المقياس. فالمقومات التي يستعملها الدارس في تحديد الدراسة الإقليمية لا تتغير مع تغير طبيعة الشيء فقط بل كذلك حسب زاوية النظر التي يختارها و مقياس الدراسة الذي يضعه. و ذكرنا في التعريف أن حدود الإقليم خاضعة للمضمون الذي تحتوي عليه فيجب إذا تحليل هذا المضمون أولا حتى يسهل توقيع حدودا دقيقة تبعا لعناصر الاختلاف أو التشابه. يمكن لكلمة إقليم أن تشير إلى مركب متجانس تكون فيه العلاقات بين مختلف العناصر المكونة له واحدة أو تشير إلى مجموعة من مركبات متجانسة صغيرة تكون الفروق بينها داخل المجموعة أقل من تلك التي تفصلها عما حولها فتكون إقليما متميزا له صبغة إجمالية واحدة تبرزه وسط مجموعات أخرى. و يمكن للإقليم أيضا أن يكون مجموعة منظمة تحت تحكم مركز عمراني يجمع بين وحداتها حتى و لو اختلفت اختلافا كبيرا. الإقليم إذا عبارة عن مركب و دراسته تخضع للبحث التركيبي فيبدأ أولا بتحديد عناصر المركب ثم نوضح العلاقات الكامنة بين هذه العناصر أي أنه يجب الإطلاع على مقومات الإقليم واحدة واحدة ثم إدراك كيفية تأثير كل منها على الأخر
الأقاليم حسب التصنيف الحديث
يعد الإقليم في نظر الجغرافيين الضابط و المجال الأنسب لتنظيم معلوماتهم في شكل قواعد أساسية لأنه يمثل الوجهة الأكثر إقناعا والأقرب إدراكا في حصر الحقائق وكسف العلاقات بين المظاهر المختلفة و العناصر المتنوعة للمركب الجغرافي: عمراني، طبيعي، حيوي، اقتصادي الخ... وأول ما تقوم به الدراسات الإقليميّة هو تعريف الإقليم أو مفهومه الذي يختلف باختلاف الباحثين وأبحاثهم. إذ ليس من السهل الإتيان بتعريف شامل ومحدّد يحصر هذا المصطلح الجغرافي. نجد البعض يعرّفه بالجزء المتميز من سطح الأرض والمنسجم ؛ والبعض الآخر بالوحدة المظهريّة التي تتشكّل من عناصر متكاملة ذات خصائص متشابهة بحيث كلّما ازداد التشابه بين هذه العناصر قلّت الفوارق وازداد الإقليم انسجاما وتجلّت حدوده بينما كلما اختلفت المعايير و القواعد الأساسية المستعملة في التصنيف كلما ازداد تعريف الإقليم التباسا . وهناك من الجغرافيين من يتخذ من المعيار الواحد أساسا للتصنيف و إن كان هذا المعيار في غالب الأحيان مؤشرا جغرافيا (كمؤشّر الملامسة في المورفولوجيا، أو مؤشّر الصرف المائي في الهيدروغرافيا، أو مؤشّر الجفاف في المناخ الخ...). وقد يكون التصنيف الإقليمي مبنيّا على أساس متغيّر واحد كمّي أو وصفي كعنصر واحد من المناخ أو التضاريس أو الغطاء النباتي الخ.... ومنهم من يعتمد في التصنيف الإقليمي على أكثر من معيار واحد، وأبسط عمليات التصنيف هذه تكمن في إدخال معيارين يجمع بينهما في مستوى كارتيزي، يظهر فيه مدى الانسجام والارتباط لتوزيع الظواهر، فمثلا قد نجمع في الغالب ملاحظات أو معلومات كثيرة لخصائص الظواهر ثمّ نتساءل كيف ننظّم هذه المعطيات، أو كيف نصنـّفها حتى تظهر في شكل وحدات متميّزة وأقاليم متباينة.
الخريطة الإقليمية
كيفما كانت التعاريف السابقة الذكر فإن مهمة الخريطة الإقليمية هي تحقيق مبدأين. وضع أمام أعيننا مجموع الصفات التي تتميز بها منطقة ما. و أن تسمح للملاحظ أن يحدد العلاقة الموجودة بين هذه الصفات. والخريطة الإقليمية هي آخر حلقة في سلسلة من الأعمال يقوم بها الباحث انطلاقا من المصادر إلى التحليل و ترتيب المعطيات تحت عناوين محددة. -تقوم الخريطة الإقليمية التركيبية على التبسيط و التعميم دون أن تقع في الانحراف و عدم الدقة و تمثل الإقليم المدروس بواسطة رموز تمكننا من التعرف عند النظرة الأولى على شخصية الإقليم المنفردة وبياناته المميزة بوضوح كما تجعلنا نستطيع اكتشاف جميع الاختلافات الدقيقة إذا أمعنا البصر. يكون دور الخريطة الإقليمية هو تجميع و تنظيم مجموعة من الملاحظات دون أن تكون مجردة للظواهر بل فرزا و ترتيبا لها و تمثيلا للعلاقات الموجودة بينها و بالتالي فإن الخريطة الإقليمية ليست بأداة بحث لأن البحث و خرائط التحليل التابعة له تأتي في المرحلة السابقة لمرحلة وضعها لكنها عبارة عن بحث يجمع لنا بطريقة فريدة من نوعها كل ما يمكن لنا قوله حول الإقليم المدروس
مصادر الخريطة الإقليمية
إن رسم الخريطة الإقليمية كتحرير البحوث أو كتابة المقالات يجب فيه اتباع منهج معين و المرور على عدة مراحل الوحدة تلو الأخرى : كالتعرف على الموضوع و جمع المصادر و المراجع اللازمة , تحليلها و تصنيفها ثم رسم الخريطة . الوقوف على الموضوع : عندما يعزم الباحث على وضع خريطة إقليمية لمنطقة ما يجب عليه أولا أن يتساءل عما يعرفه حول هذه المنطقة و سيجد في غالب الأحيان أن معلوماته جزئية أو تكاد تكون منعدمة فيجدر به إذا أن يطلع بصفة عامة على الإقليم و على المقومات التي يتكون منها ثم إذا حصل على دراية كافية اتجه إلى المراجع المتخصصة و دقق في البحث عن طريق طرح أسئلة متتالية على شكل حوار متواصل بينه وبين المصادر حتى تتبلور نتيجة ذلك صورة متكاملة واضحة للإقليم يوقعها على الخريطة . تشمل النصوص كل ما كتب من مراجع علمية و أبحاث في الجغرافيا العامة و الأبحاث المتخصصة و المقالات المطبوعة في المجلات و غيرها و كثيرا ما تزخر المكاتب العامة و الخاصة بهذا النوع من المراجع بحيث أنه لا يصح للباحث أن يستغني عنها حتى و لو قام عائق اللغة كما هو الحال في بعض الأحيان . يجب الملاحظة هنا أن نظرة الدارس الذي يستعد لتحرير خريطة إقليمية إلى هذه المراجع تختلف بعض الشيء عن نظرة زميله الذي يستعد لكتابة مقال جغرافي لأنه يراعي دائما في اقتناء المعلومات إمكانية توقيع هذه المعلومات على الخريطة و هناك بعض الظواهر نقطية الانتشار يمكن تحديد مواقعها بسهولة و هناك بعض الظواهر الأخرى تتصف بالتوزيع المساحي الذي إذا لم يحدد بدقة في النص لا يمكن توقيعه عن طريق النص وحده و يجب على هذا الأخير أن يكون معززا بخريطة حتى تسهل الاستفادة منه . ومقياس الدراسة مهم هنا كذلك لأن كبر المقياس يتبعه صغر المنطقة المدروسة و إذا صغرت المنطقة قلت المصادر الخرائطية .
تنقسم المصادر الخرائطية إلى قسمين :
1. القسم الأول : مصادر عامة كالأطالس العامة و الخرائط التي تتضمنها المراجع الجغرافية و تتصف المصادر التي تدخل تحت هذا العنوان بدقة ضئيلة في التوقيع و درجة تعميم كبيرة فلا تصلح للاستدلال أو كقاعدة لرسم حدود الخريطة الأساسية.
2. القسم الثاني : يتكون من المصادر العامة التي تشمل الأطالس الوطنية و الإقليمية و الخرائط المرافقة للأبحاث و المقالات المتخصصة و تتميز هذه المراجع بالدقة الكبيرة و كثرة المعلومات بحيث أنه يصعب على الباحث أن يستغلها كما هي في رسم الخريطة الإقليمية و يجب عليه أن يعيد توقيعها بشيء من التلخيص و التعميم.
أما الإحصائيات فنحصل عليها في المنشورات الدولية عامة كانت أو كانت متخصصة بموضع معين و كذلك في المنشورات الوطنية التي تصدرها الوزارات و المؤسسات الحكومية و دور البحث العلمي و نحصل عليها أيضا في المجلات و الأبحاث التي تنشرها الجامعات و الجمعيات العلمية و المهنية المختلفة. تحليل البيانات و تصنيفها يشرع الباحث بعد جمع المصادر في تحليل المعلومات التي تتضمنها و يأتي بالعلاقات الموجودة بين الظواهر ويحدد درجة الاتفاق أو التباين في انتشارها عن طريق المقارنة . وكثيرا ما تدخل العلاقات هذه تحت عنوان الحتمية و يجب على الدارس أن يعرف هذه الحتمية و لا يبالغ في استعماله . إن الحتمية الجغرافية ليست حتمية التربة أو التضاريس أو المناخ فقط بل هي حتمية تفرضها مجموعة من الظواهر الطبيعية التي إذا اجتمعت وتراكبت بدرجات متفاوتة كونت لنا وسطا خاصا و بيئة معينة , فحذري إذا من الاستنتاجات السريعة و قلة التمعن في العلاقات الظاهرية و الارتباطات السطحية الخادعة . ويجب الملاحظة أن الارتباط لا يكون فقط بين العنصر الطبيعي من جهة و العنصر البشري من جهة أخرى بل أيضا بين مختلف المظاهر المكونة لكل عنصر . و لا تأتي صعوبة رسم الخريطة الإقليمية من قلة البيانات و العلاقات الواصلة بينها لكنها بالعكس كثيرا ما تأتي من هذه المعلومات و هذه العلاقات حتى أن الباحث يحتار فيما سيقعه و ما سيتركه , فهناك عملية اختيار و انتقاء يجب القيام بها . نبدأ هذه العملية بتحديد ما سيدخل في تكوين شخصية الإقليم المدروس فنحتفظ به و نتنازل عما ليس له أهمية أساسية في هذا الميدان . ولا يمكن أن يكون اختيار المقومات عفويا يرجع إلى محض الصدفة بل يجب على الباحث أن يتصور الخريطة قبل رسمها و ينطلق من هذا التصور. و ليست هناك طريقة خاصة معينة للقيام بعملية الاختيار لأن ذلك لا يكون إلا ببعد الاطلاع على ماهية الإقليم ليسمح هذا الاطلاع بتحديد العلاقات التي يجب توقيعها حتى تبرز وحدة الإقليم و تباينه عما يجاوره . قد يكون الاختيار جبريا أي أننا نعلم من أول وهلة أن ظاهرة معينة (طبيعية أو بشرية ) لا تعد من مقومات الإقليم فلا نهتم بها . كما يرتبط الاختيار في كثير من الأحيان بمقياس البحث و وجوه الاختلاف الموجودة في منطقة صغيرة لا تكون ناتجة عن النظام المناخي السائد بها و ليس صحيحا إذا أن نعطي أهمية فائقة لعنصر المناخ في تقويم هذا الإقليم . و يفرض كبر مقياس الخريطة أيضا نوعا آخر من الاختيار فإذا صغرت المساحة قلت البيانات و تفاوتت درجة الدقة فها فلا نختار إلا المعلومات المتجانسة التي تتسم بدقة كافية . و تسهل عملية الاختيار بفرز المعلومات و ترتيبها تحت عناوين واضحة و يكون الفرز على جميع المستويات اللازمة , حسب الميدان الطبيعي و الميدان البشري أولا ثم داخل عناصر كبيرة في هذين الميدانين و أخيرا ضمن الأنماط التي تتكون منها العناصر الكبيرة . ويمكن أن تكون عملية ترتيب البيانات على الطريقة التي اتبعت في الفرز دون أن يكتفي بها بل يراعي أيضا أسسا أخرى تشمل البنية و العلاقات التاريخية و نشأة الظاهرات و نوعية التطور الذي تتصف به , فلا يكون الترتيب سطحيا واسميا فقط بل عميقا و يأتي عن تمعن في شخصية الإقليم (أي ترتيبا جغرافيا بمعنى الكلمة) يأخذ بعين الاعتبار كل ما يدخل في وصف بيئة معينة. و بالترتيب هذا تبدأ عملية الشرح و التركيب التي تتضمنها الخريطة الإقليمية و هي الطريقة الوحيدة التي تسمح بتوقيع حقيقة الإقليم المعقدة ببساطة و دون غموض.
الصفات التي تتميز بها الخريطة الإقليمية
إن الخريطة الإقليمية ليست بلوحة فنية و لا تتطلب من وضعها معرفة كبيرة لنقد الرسم, إنها مجرد وسيلة تعبيرية شأنها شأن الرسوم الهندسية التي يستعملها علم الهندسة و يكفي لتحقيقها أن توفر بعض الشروط وتطبيق بعض القوانين.
الوضوح و سهولة القراءة يلعب هذا الشرط دور أساسيا في رسم الخريطة الإقليمية و يكون الوضوح في الشكل العام للخريطة كما يكون في الجزئيات و التفاصيل ، إذ لجب أن تبرز لنا الخريطة أهم العناصر المكونة للإقليم من أول نظرة كما يجب أن تمكننا من الإطلاع بصورة واضحة على أدنى جزء منها. و يأتي الوضوح من النظافة في التنفيذ قبل كل شيء فيجب رسم المستقيمات بالمسطرة و الدوائر بالفرجار و تنظيف الخريطة من أي نقطة و محو جميع الخطوط الثانوية التي تستعمل عادة لتوقيع الخريطة "شبكة المربعات المستعملة لتغيير مقياس رسم الخريطة مثلا " كما يتجلى الوضوح في حسن اختيار الرموز حتى إذا ركبت واحدة على الأخرى لا ينتج غموضا من ذلك التركيب أما سهولة القراءة فتأتي من الاقتصاد في استعمال الرموز و حسن اختيارها و الصعوبة تزداد مع تعدد الرموز و كثرة تنوعها كما يلعب مقياس رسم الخريطة دورا مهما في تعيين درجة الدقة التي ترسم بها الرموز حتى لا تتداخل و تطمس الخريطة لكنه لا يسمح للوضوح أن يكون على حساب وفرة المعلومات لأننا لا نستطع وضع صورة تركيبية ذات قيمة كبيرة بتوقيع بيانات قليلة. فإن لم تسمح لنا الخريطة بإعطاء جميع المعلومات عن الإقليم فلها على الأقل أن تبرز لنا أكثر الأمور عنه .
التبسيط و التعميم ومما سبق ذكره يتبين أن التبسيط و التعميم شرط وجب توفره في الخريطة مهما كبر مقياس رسمها و يكون التعميم و التبسيط سواء في مستوى رسم الخطوط الأساسية للخريطة " من سواحل و أنهار و طرق " أو في مستوى توقيع البيانات التي قررنا الاحتفاظ بها . و نقصد بالتعميم بساطة الرسم خاصة . فكثرة الدقة بدون لزوم تنقل الخريطة و تطمس معالمها الأساسية . و درجة التعميم تكون تابعة لأهمية الظاهرة الموقعة فنكتفي بمجرد التلميح بظاهرة معينة لأنها تلعب دورا ثانوي في حين أننا نوقع ظاهرة أخرى ذات أهمية بالغة بكثرة من التفصيل فقضية التعميم نسبية إذا و لا يصح التفصيل أو المبالغة فيها كما لا يصح التعميم أن يكون على حساب الدقة أو صحة توقيع البيانات لأنه يجب على الخريطة أن تعطي صورة صادقة على الإقليم رغم بساطة التمثيل و تعميم البيانات فيها و يتطلب درجة كبيرة من الدقة في التفكير لأنه أمر يصعب الحصول عليه. الدقة تكون الدقة في التوقيع و جلب المعلومات الصحيحة ، فالبيانات الموقعة في غير مكانها تغير مدلول العلاقات الناجمة من التركيب كما تشوه المعلومات المزيفة لشخصية الإقليم المدروس ، فيجب على الباحث أن يكون أولا: دقيقا في اقتناء معلوماته و ثانيا: في تحليل البيانات و ثالثا: في توقيع الظواهر. و الدقة في اقتناء المعلومات هي أن يبحث على البيانات الصحيحة الحديثة و يتحقق من صحتها . فلا يجوز له أن يستغل إحصائيات السكان لسنة 1967 و يترك إحصائيات سنة 1998 مثلا كما أن الدقة في تحليل البيانات هي ألا يكتفي بالظاهر و يترك الكامن و يسرع في الاستنتاج عندما يكون التعميم أمرا ضروريا أما الدقة في التوقيع فتقوم على اختيار الرمز المناسب من جهة و توقيعه في المكان المعين له من جهة أخرى . التعبير نقصد بالتعبير شرط اختيار الرموز المناسبة لكل ظاهرة بحيث تتوفر فيها صفات تجعل الخريطة ناطقة يسهل الوقوف عما تتضمنه و تخص هذه الصفات شكل الرمز و حجمه فالشكل بما فيه اللون يوحي لنا بطبيعة الظاهرة الموقعة أما الحجم فيبرز أهميتها بين مقومات الإقليم .


على فكرة الموقع هو ويكيبيديا الموسوعة الحرة

الجمعة، 14 أغسطس 2009

نبذة عن علم الجغرافيا

تطورعلم الجغرافيا
لو أن هناك فرصة لإعادة النظر في تسميات بعض فروع العلم لكانت الجغرافيا على رأس هذه العلوم التي هي في حاجة ماسة إلى ذلك.. فلفظ الجغرافيا Geography لفظ إغريقي هو في الأصل geographica، مؤلف من شقين: أولها Geo ويعني الأرض، وثانيهما Graphica ويعني الوصف أو الصورة.

وعلى هذا الأساس فالجغرافية هي "وصف الأرض أو صورتها" بصورة كلية. ومثل هذا المدلول قد يكون مقبولا عند التأريخ للإرهاصات الأولى لبزوغ العلم الذي كان تكوّن، ثم انبعثت منه عدة فروع صارت الآن علومًا مستقلة، فعندما نقرأ في كتب بعض الرحالة والجغرافيين العرب -مثل المقدسي وابن حوقل وابن جبير وغيرهم- عبارة تفيد بأنه زار مصر ووجد بها "نهرًا عظيم الفيضان، وهضابا عالية الارتفاع، وبقاعا سحيقة الانخفاض" ونحو ذلك.. كل هذا يمكن أن نتقبله من رجال ذلك الزمان، ولكن طبيعة ما يقوم به المشتغل بعلم الجغرافيا حاليًا، ومنذ فترة غير قصيرة جعلته ينتقل من مرحلة الوصف البحتة السابقة إلى مرحلة البحث عن السبب فيما تقع عليه عيناه، وترصده يده، وتسجله خرائطه؛ بمعنى آخر جعلته ينتقل من مرحلة الوصفية Descriptive Stage إلى مرحلة السببية Causal Stage، ومع هذه النقلة النوعية كان لا بد أن ينتقل علم الجغرافية برجالاته وأدواته إلى هذه المرحلة التي جعلته بالفعل يستحق أن ينسحب عليه لفظة "علم – Science"، فضلا عن انفتاحه على العلوم الاجتماعية التي تنشغل الآن بقضايا تحولات المساحة والمكان في ظل العولمة، وانتشار تقنيات الاتصال التي استلزمت إعادة التفكير في المكان، وعلاقته بالزمن وآثار اختصار المسافة على الأبنية والهياكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

لقد ظل الطابع الوصفي مفروضًا على الجغرافية حتى بدأت ثورة السببية تجتاح فروع العلم فنال الجغرافيا منها نصيب وكان ذلك على يد كل من الألمانيين ألكسندر همبولت Humbolt ومعاصره كارل ريتير K. Ritter، وقد أصبح هذا الأخير أول أستاذ للجغرافية كعلم مستقل في العالم، وكان ذلك بجامعة برلين، حيث اتجه أول الأمر نحو الجغرافيا ليضع منها أساسًا لدراسة التاريخ، إلا أن الجغرافيا استهوته واحتوته، فما لبث أن انصرف إليها تمامًا، فنشر كتابه الأول "دراسة الأرض Erdkunde" الذي جعل منه أعظم جغرافي في عصره.

وكانت الجغرافيا تدرس مع علوم الفيزياء والجيولوجيا تارة، أو كموضوع في دراسة التاريخ والفلسفة تارة أخرى، أو بالطبع في كليات الحربية والعسكرية، خاصة فرع الطبوغرافية أي رسم الخرائط والمساحة، فعلم الجغرافيا كان وثيق الصلة بمخططات التوسع الاستعماري، ولطالما استخدمت الجغرافيا كأداة لتحقيق أغراض سياسية، ومنذ بدأت حركة الكشف الجغرافي في نهاية القرن الخامس عشر (1493) كانت الجغرافيا مسخرة لخدمة هذا الغرض حتى أصبحت وظيفة الجغرافيين عملية رسم الخرائط للأجزاء المعلومة (المعمورة) من العالم، ثم بعد ذلك إضافة المستعمرات الجديدة كأجزاء من معمور اليابس.

ولقد ظل اسم الجمعية الملكية الجغرافية البريطانية مرتبطًا بالكشف الجغرافي حتى صار الجغرافي مستكشفًا أو مساحًا، ومرة ثانية يسخر علم الجغرافيا لخدمة الأغراض التوسعية الاستعمارية، فرغم ما كان يشيع من روح علمية في رسم المصورات الجغرافية (الخرائط) التي قام بها علماء لا يستهدفون سوى المعرفة مثل مركيتور Mercator، فإن التسابق في رسم الخرائط والإعلان عن مناطق جديدة كان يعني ملكيتها واستعمارها، وهكذا ارتبط تقدم الجغرافيا بأغراض إستراتيجية.

ومع بداية حركة التوسع الهتلري التي أفرزت فيما أفرزت فرعًا جديدًا من فروع الجغرافيا هو الجيوبلوتيكا Geopolitics الذي كان يوظف الجغرافيا في إعداد الخرائط وتوفير قواعد البيانات عن الموارد الأرضية والبشرية بالجهات المستهدف التوسع فيها، وهذا يختلف تمامًا عن فرع الجغرافيا السياسية Political Geography -اختلافًا في الهدف والمضمون.

ويمكن القول: إن القرن التاسع عشر هو قرن التحولات في مفاهيم علم الجغرافيا سواء ما اختص العلم ذاته من قبل رجاله ومنظريه، أو ما أصاب العلوم وضروب المعرفة البشرية جميعها فنال علم الجغرافيا نصيبه من هذا كله.

ومن غير شك نال الجغرافيا الكثير من التطورات وربما التغيرات في ظل حركة التغير في الفكر الفلسفي على مدى زمن المعرفة البشرية. وفي هذا الصدد يرى العالم الجغرافي المصري د. محمد زهرة أن الاتجاهات التأثيرية والانطباعية كانت ذات أثر مهم في نشأة المدرسة الحتمية عند راتزل Ratzel والإمكانية عند فيدال دي لابلاش، أي أن الفكر الفلسفي كان له تأثير هام في تطور مرحلتين من أهم مراحل التطور الفكر الجغرافي خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر حتى نهاية الربع الأول من القرن العشرين.

وعلى هذا فليس مستغربا أن نجد مناهج الفكر الجغرافي الحديث تعتمد على الاتجاه التجريبي أو الوضعي أو حتى الوجودي، بل وتتبنى أفكارًا وأيدلوجيات مقابل تصورات جغرافية مثل نظرية ماركس عن ربط المجتمع النهري بالاستكانة والخضوع، أو الربط بين موقع دولة والدور السياسي الذي يمكن أن تلعبه، حتى قال الفيلسوف الفرنسي كوزان: "أعطوني خريطة بلد ما وأنا أتعهد بأن أدلكم مقدمًا على إنسان هذا البلد كيف سيكون وأي دور سيلعبه في التاريخ"، وهو خير تعبير عن الفكر الحتمي الذي تبناه الكثير من الفلاسفة والعلماء متأثرين بفكر تشارلز داروين Darwin 1858 وزميله ألفريد ولاس A. Wallas عن التطور العضوي والبقاء للأصلح، حيث اعتنق هذه الفكرة من الوجهة الجغرافية الألماني راتزل 1882 Ratzel، ومن بعده ديفيز Davis وسامبل Sambel وأخيراً هنتنجتون Huntington بالولايات المتحدة الأمريكية، وهي فكرة تتجاهل القدرات التقنية والعلمية التي سهلت لدول صغيرة محدودة الموارد -مثل اليابان- أن تؤثر باقتصادها في توازنات السياسة الدولية حتى أثيرت مؤخرًا فكرة ضمها لمجلس الأمن.

والحتمية البيئية من الناحية الجغرافية تعني ضرورة تكيف الإنسان مع محيطه الطبيعي حتى يكتب له البقاء.

ويمكن القول إن للحتمية البيئية من الوجهة الجغرافية أصولا أقدم تعود للحضارة الإغريقية، حيث وصف أبيقراط 420 ق.م سكان الجبال بأنهم ذوو قامات طويلة فارعة، وشجاعة وبأس، على عكس سكان الأراضي السهلية الذين يتسمون بالخنوع والضعف.

وقد تأثر العرب بالتراث الإغريقي، فنجد بعض الجغرافيين العرب يربط بين المناخ وخصائص السكان من الناحية البدنية والطباع والسلوك، وهو ما يمكن أخذه بحذر، لكن كثيرًا من ذلك الربط تغير مع تحولات الاقتصاد وتطورات العلم الحديث.

وعلى وجه العموم فإن سيطرة النظرية الحتمية على التفكير حالت دون تفسير الظاهرة الجغرافية التفسير الوافي الدقيق، فانتهت إلى أحكام سريعة فيها من البساطة والتكرار الكثير، ورغم ما أحاط بنظرية الحتم البيئي من تفنيد ونقد خلال العصر الحديث فإن هذا لا يعني انحسار هذا الفكر تمامًا أو عدم وجود منظرين لها، فلو كان الأمر كذلك لما ظهر لنا فرع جديد من فروع الجغرافيا الاجتماعية يعرف بجغرافية الجريمة Geography of Crime الذي يحاول الربط بين نوعيات ومستويات الجرائم والظروف البيئية لمرتكبيها على أساس اختلاف الظروف الجغرافية، إذن فلم يزل هناك قطاع من علماء الجغرافيا يدور في فلك الفكر الحتمي، الذي قد يؤدي لأحكام عنصرية على جنس أو شعب، حتى ولو لم يعترف الجغرافيون بذلك.

ويمكن اعتبار عام 1922 بداية الانتفاضة والثورة على الحتم البيئي، وذلك على يد الفرنسي بول فيدال دي لابلاش، خلال كتابه "مبادئ الجغرافيا البشرية"، ثم جاء كارل ساور Sawar في 1925، بالولايات المتحدة مؤسسًا لمدرسة جديدة مناهضة للحتم البيئي أطلق عليها مدرسة اللاندسكيب (هيئة الأرض) Landscape التي تهدف إلى أن الأرض وما بها من موارد ملك الإنسان، أي أن قيمتها تتحدد وفق حاجته لها واستغلاله إياها، بما يعني الحرية الكاملة للإنسان، ومناقضة مبدأ الحتم السابق.

وجملة القول في هذا الصدد إن الجغرافيا تأثرت بالحتم البيئي، ثم تحررت منه كما تأثرت وتحررت كذلك غيرها كثير من العلوم.

وقد اتفق الفيلسوف الألماني كانت Kant والجغرافيان هنتر Henter وهارتسهورن Hartshorn على أن هناك ثلاث طرق لدراسة الحقيقة، وتُعَدّ الجغرافيا أهم هذه الطرق على الإطلاق، أي أن بُعد المكان يكتسب أهمية معرفية ووجودية.

وفي واقع الأمر فإن صياغة تعريف للجغرافيا يحدد وضعها بين العلوم التجريبية والإنسانية ليس بالأمر اليسير، فمثلاً حين أراد روجر منتشل.
في أواخر الستينيات أن يحصر التعريفات التي صيغت بها الجغرافيا وجد ما يربو على اثني عشر تعريفًا (كان ذلك منذ نحو نصف قرن )، وهو ما يدل على عدم وجود حدود واضحة صارمة لمجال العلم وعدم وضوح -أو قل عدم الاتفاق على- غايات العلم وهدفه ومن ثم مكانته بين بقية العلوم. فإن كان بيرد Bird (1993) يرى أن الجغرافيا لا تنتمي للعلوم الطبيعية أو للفنون وإنما هو تخصص يجمع بينهما، فإن الفرنسي بياجه Piaget يرى أن الجغرافيا كعلم يجب أن يتوارى ليفتح المجال لعلم جديد هو علم "المجال الجغرافي" L’espace بكل مكوناته المكانية والاجتماعية والنفسية.

إلا أن الأمر في النهاية يمكن إجماله في أن الجغرافيا تخصص مميز يدرس قضايا تقع اليوم في المنطقة البينية أو منطقة التداخل بين حقول الدراسة الاجتماعية والطبيعية Interdisciplinary فإن كان البعض لا يروقه أن يستخدم الجغرافي أدوات أصحاب التخصصات الأخرى فإن ذلك قد يعني -لقاء هذا- أن يحتكر الجغرافي استخدام الخريطة على تخصصه ليُحَرِّم على كل فروع العلم (الطبيعية والإنسانية) توظيف هذه الأداة الهامة، وفي نفس الوقت لا يتعجب البعض حينئذ أن تصبح "نظم المعلومات الجغرافية" Geographical Information Systems حكراً على الجغرافيين فتحرم بقية التخصصات من وسيلة وتقنية علمية دقيقة ذات نتائج دقيقة تحسب للجغرافيين، ويفيد منها غيرهم من أصحاب العديد من التخصصات الأخرى.

من الجغرافيا الوصفية للنظم البيئية المركبة:

توازى تطور علم الجغرافيا مع تطور الفكر والممارسة في مجال قضايا البيئة ليتطور المنظور البيئي إلى علم مستقل له مفرداته وأدواته ولغته الخاصة التي تجمع بين الهموم البيئية والمعارف الجغرافية، مع الاستفادة من علوم حيوية مختلفة، فظهر ما يعرف بالنظم البيئية Ecosystems التي تعبر بالدرجة الأولى عن حالة من التميز لمجموعة مكونات إيكولوجية في حالة من الترابط والتفاعل بدرجة تميزها عما عداها من النظم الأخرى.

بدايةً لا بد من الاتفاق على أن لفظة نظام System أكبر من أن تكون مجرد تجميع لمفردات معينة إذ إنها عادة ما تعبر عن نسق لمكونات متنوعة ومتصلة مع بعضها البعض بروابط، وأن هناك اتساقا وتنظيما ثم تفاعلا بين هذه الظواهر، هذا رغم احتفاظ كل منها بخواصه المميزة له عن غيره.

فعلى سبيل المثال: نظام التعليم تعبير عن مجموعة من المكونات غير المتشابهة dissimillar components من مدارس ومعاهد وكليات جامعية، هذه المكونات مع تميزها فإنها ترتبط مع بعضها البعض برابط هو أداء الخدمة التعليمية وكل ذلك يتم في إطار من التنظيم يمثله عنصر الزمن (الفصول الدراسية) وما من شك أن هناك حالة من التفاعل بين هذه المكونات رغم تميز كل منها بسماته الخاصة.

ويمكننا القول إن علم البيئة Ecology هو معالجة جديدة لقضية قديمة إذ إن الإنسان منذ نشأته وهو في حالة تعامل وتفاعل مع ما يحيط به من مكونات حية وغير حية ويجتهد في سبيل تحقيق أقصى استفادة من هذه المكونات.

ووفقاً لطبيعة تراكم المعرفة البشرية فقد أصبح الإنسان في حاجة إلى وضع إطار معرفي يدرس من خلاله هذه المكونات والظروف المحيطة به، فظهر علم البيئة Ecology لينقل دراسة البيئة من الوصف الجغرافي إلى تقويم علاقة الإنسان بمحيطه الجغرافي وموارده الطبيعية وكذا مجاله الحيوي بما يكفل الحفاظ على هذه النظم لا تدميرها وحرمان الأجيال القادمة منها تحت ضغط الحسابات الاقتصادية النفعية الآنية والضيقة.

واشتقت لفظة إيكولوجى Ecology من التعبير اليوناني Oikos الذي يعني البيت أو المكان الذي يصلح للسكنى، ومن نفس الأصل اللغوي اشتقت كذلك كلمتا Economy & Economic.

فعلم البيئة في أبسط معانيه هو كما عرفه العالم الألماني هايكل Haikel Ernust في سنة 1870: "إننا بكلمة Ecology نعني الإطار المعرفي الذي يهتم باقتصاد الطبيعة، والبحث في مجموعة العلاقات الصادرة من جانب الحيوانات تجاه عناصر البيئة الحية وغير الحية"؛ لذا فإن البيئة ليست مفهوما ساكنا أو نمطيا، بل هناك -بحكم تعدد السياقات المكانية ومحيطه- أنظمة بيئية مختلفة ومتعددة، ومتجددة.

النظام الإيكولوجي إذًا هو تجمع حيوي من النباتات والحيوانات في إطار بيئة طبيعية أو مكان للحياة والعيش Habitat يمثل جزءاً من الطبيعة، في حين أن كلا من عناصر التربة والمناخ تمثل المكونات الخلفية الطبيعية لهذه البيئة.

وبناءً على ما تقدم فإنه يمكن أن نميز بين مكونين أساسيين لأي نظام بيئي، هما:

1 – مجموعة المكونات الحية Biotic components.

2 – مجموعة المكونات غير الحية Abiotic components.

وبالنسبة للمجموعة الأولى فإن النظام البيئي يتألف حيوياً من وحدات بيولوجية أكبرها المجتمعات Communities بحيث يعيش كل مجتمع في بيئة مناسبة له، وينقسم المجتمع إلى وحدات أصغر تعرف بالأنواع Species ينقسم كل نوع على أفراد Individual Organisms يتميز كل فرد فيها بطراز جيني وطراز شكلي مميز.

وأما المجموعة الثانية فإنها تتمثل في الغلاف الصخري والغلاف المائي والغلاف الغازي، يضاف إلى ذلك الطاقة الشمسية الواصلة إلينا من خارج النظام البيئي الأرضي.

مستويات النظم البيئية:

بمقدورنا أن نميز مستويين أساسيين للنظم البيئية هما:

أولاً: المستوى العام أو الكوني

وداخله يمكن الإشارة إلى ثلاثة أنظمة بيئية هي:

1- النظام البيئي القاري

2- النظام البيئي للمياه العذبة

3- النظام البيئي للمياه المالحة

ثانياً: المستوى التفصيلي:

وداخله يمكن أن تمييز أنظمة بيئية طبيعية وأخرى بشرية على النحو التالي:

1 - نظم بيئية طبيعية وهي النظم التي تعمل آلياتها دون تدخل من جانب الإنسان، وداخل هذه النظم أمكن الفصل بين

أ – النظم البيئية الأرضية
ب – النظم البيئية المائية (عذبة – مالحة)

2 – النظم الاصطناعية : وهى تلك النظم التي يبرز فيها دور الإنسان من حيث نشأتها وإدارتها وبذلك فهي تشمل نظم المناطق الصناعية والزراعية وكذلك العمرانية.

وعلى هذا الأساس أصبح بمقدورنا أن نتصور أي وحدة مساحية مكانية كنظام بيئي له تلك المكونات؛ فقارة أفريقيا -على سبيل المثال- يمكن اعتبارها نظاما بيئيا له مكوناته الحية وغير الحية في الوقت الذي يمكن اعتبار ورقة الشجر نظاما بيئيا يحمل نفس المكونات الحية وغير الحية ويتم فيها تبادل العلاقات وتمييز مستويات من تدفق الطاقة والمادة.

فما مدى علاقة النظم البيئية ببعضها البعض؟

بناءً على السلوك أو التفاعل عبر الحدود بين النظم البيئية فإنه يمكن التمييز بين النظم الثلاثة التالية:

- النظام المعزول1

يتمثل هذا النوع في النظم التي لا يوجد تفاعل أو علاقات بينها وبين النظم الأخرى خارج حدودها، وهذه النظم يقتصر وجودها على المعامل والمختبرات فقط.

- النظام المقفل2

وفيه يمكن أن يحدث تبادل للطاقة عبر حدوده مع الأنظمة البيئية المحيطة به إلا أنه في نفس الوقت لا يتم أي تبادل للمادة بينه وبين غيره من النظم.

النظام المفتوح - 3

وفيه تستطيع كل من المادة والطاقة الانتقال بحرية عبر حدوده بينه وبين غيره من النظم.

وكما سبقت الإشارة إلى أنه ليس هناك نظام بيئي مغلق في الطبيعة فإن هذا النمط لا يمكن وجوده أو إيجاده إلا داخل المعامل والمختبرات، فالنظم في غالبيتها مفتوحة.

بعد أن أصبحنا ننظر الآن إلى الأشياء بمنظار إيكولوجي فإنه يمكن أن نتصور أن ما نحيا فيه وما يحيط بنا هو مجموعات من النظم تنشأ بينها علاقات نتيجة تدفق مواد أو طاقة في صورة مدخلات Inputs ثم حدوث تفاعل بين هذه المدخلات مع المكونات الأصلية التي دخلت عليها وخروج نتاج هذا التفاعل في صورة مخرجات Outputs، وانطلاقاً من هذه الفكرة يمكن تمييز المستويات المختلفة من النظم البيئية.

الضغط السكاني على الموارد البيئة:

لما كان هناك اتجاه متنام لتحقيق أقصى استفادة ممكنة من الموارد المتاحة والبحث عن موارد جديدة لسد احتياجات السكان، فإن ذلك يمثل ضغطاً متزايداً على النظم البيئية؛ الأمر الذي يلفت النظر إلى مقولة إن بعض خطط التنمية التي لا تراعي توازن النظم البيئية تضر بالبيئة، وهو ما يعيدنا مرة أخرى إلى ذلك النزاع الدائر بين فريق الاقتصاديين الذي يضع الربح والخسارة كمعيار أساسي لأي نشاط بشري، وفريق المحافظين على البيئة الذي يرفع راية الحفاظ على المعطيات البيئية فوق أي اعتبار.

ولإيجاد حل يرضي الطرفين ظهر ما يعرف بدراسة تقييم الآثار البيئية (EIA) Environmental Impact Assessment والتي تهدف إلى تحديد ورصد الآثار التي يمكن التنبؤ بوقوعها سواءً أكانت آثارا سلبية أو إيجابية بالإضافة إلى دراسة البدائل والتدابير الخاصة بتخفيف وطأة الآثار السلبية وتدعيم الآثار الإيجابية.

ولعل منطقة الساحل الشمالي الغربي بمصر خير نموذج يمكن الحديث عنه كنظام بيئي كانت له كينونته المتميزة، يتمتع بمجموعة مكونات أحيائية (نباتية وحيوانية) خاصة به، بعضها كان فريدا على مستوى العالم، ولكن مع زيادة الضغط البشري على هذا النظام والانتهاء إلى إزالة الكثير من البيئات النباتية وإحلال الكتل الخرسانية محلها ليس لأغراض الإنتاج الزراعي أو حتى الصناعي بل لأغراض الاستثمار العقاري السياحي(!) كل ذلك مدعوماً بضغط على التربة والموارد المائية أدى في نهاية الأمر إلى حدوث مشكلة بيئية خطيرة ألا وهى ظاهرة التصحر Desertification التي تعد دليلا دامغا على سوء تعامل الإنسان مع البيئة وتجاهل الاعتبارات الإيكولوجية لصالح النهم للربح السريع في أصول غير منتجة بالمعنى التنموي الدقيق.

وفي نفس المجال طالما يعلن بين الحين والآخر عن مناطق محدودة أرضية أو مائية كمحميات طبيعية بهدف الحفاظ عليها وتجريم الإضرار بمكوناتها بغية الحفاظ على التنوع الحيوي الذي توليه كثير من الهيئات الإقليمية والدولية اهتماماً كبيراً.

فالتنوع الحيوي Biodiversity هو التباين فيما بين الكائنات الحية من كل المصادر (المائية والأرضية) ويشمل ذلك حتى التباين داخل النوع (التنوع الوراثي) وبين الأنواع (التنوع النوعي) وعلى مستوى المنظومات البيئية ككل (التنوع البيئي).

أما المحميات الطبيعية فهي تلك المساحات اليابسة أو المائية التي تعلنها الهيئات المنوطة بعناية البيئة كمناطق مصانة، ومحرم أي صورة من صور تدخل الإنسان فيها بما يتلفها أو لا يسمح لها بالعودة إلى حالة التوازن البيولوجي المرجوة.

ولعل بزوغ مصطلحات مثل التنوع الحيوي Bio Diversity والمحميات الطبيعية من الدلائل على الاهتمام الدولي والإقليمي بالبيئية كقضية أساسية، ولكن ما تجدر الإشارة إليه أن المشكلة ليست في الاهتمام على المستوى العلمي الأكاديمي فهذا حادث، ولكن العقبة تتمثل في إيجاد اتصال بين ما يتم في المختبرات وحجرات الدروس وما تفرزه سلوكيات الإنسان والشرائح الاجتماعية باختلاف مستويات وعيها ومستويات ثقافتها العامة من ناحية والبيئية من ناحية أخرى.

ورغم أن بداية علم الإيكولوجي كانت بداية بيولوجية أكثر من أي شيء فإن مجال هذا العلم أخذ يتسع ليتيح الفرصة لإضافة إسهامات الكثير من أصحاب التخصصات المختلفة سواءً كانت علوما تطبيقية أو علوما بحتة أو حتى دراسات إنسانية، ومنها علم الجغرافيا.

وقد كان للجغرافيين إسهاماتهم المعتبرة في هذا المجال منذ أن صاغ Haggett & Strahller تعريفات للإيكولوجي، إلى أن أصبح هناك فرع جغرافي خالص يهتم بدور العنصر البشري في البيئة الطبيعية، فظهر علم الجغرافيا البيئية Environmental Geography كمساحة وسيطة وصاعدة بين العلوم، تستحق منا اهتماماً أكبر في جامعات العالم الإسلامي.

لقد دعا الإسلام إلى الحفاظ على البيئة وحمايتها، والعدل في الاستفادة من مواردها، وجاء في الحديث الشريف الذي رواه البخاري أن "الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار" وهي إشارة واضحة لعدم استئثار مجموعة من البشر بالموارد واستنزافها دون أخذ نصيب غيرهم في الاعتبار، الأمر الذي اصطلح عليه حديثاً باسم التنمية المستدامة Sustanbale development.

كذلك حث الرسول صلى الله عليه وسلم على الاقتصاد في تسخير الموارد للنفع الإنساني بل وعدم الإسراف في استهلاكها حتى في العبادات حين نهى سعداً عن السرف في ماء الوضوء ولو كان المسلم على نهرٍ جار. ومن حكمته تعالى تحريم الصيد وقت الحج، وتحريم أكل أنواع بعينها من الحيوانات والطيور بل والحشرات للحفاظ على توازن البيئة، وكذلك الاقتصاد في الأضحية حيث كان أتباع أديان سابقة يسرفون في تقديم الأضاحي حتى تصل إلى المائة، وكذلك النهي عن التسري بقتل الطيور والحيوانات إذا لم يكن لذلك هدف الانتفاع والأكل.

وقد عرف العرب نظام الأحمية الطبيعية في بيئات المراعي العربية القديمة، ومن الأحاديث الشريفة التي تدعو إلى الحفاظ على الحياة النباتية ما جاء في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي رواه البخاري: "إن قامت الساعة وفي أحدكم فسيلة فإن استطاع ألا تقوم حتى يغرسها.. فليغرسها".