أهمية علم الجغرافيا
إن الجغرافيا لم تعد ذلك العلم الذي يهتم بوصف الظواهر وصفا سطحيا بعيدا عن الواقع بل أصبحت ذلك التخصص الذي يتماشى والتطور العلمي الحديث المعتمد على التحليل والقياس والربط واستخدام النماذج والنظريات الحديثة وبذلك صارت في الاتجاه التطبيقي الذي يعرف اليوم بالجغرافيا الكمية والجغرافيا التطبيقية التي ترفض أن تستمر بعيدا عن الإنشغالات الكبرى للإنسان وذلك لما تمتاز به الجغرافيا من قدرة على التأقلم مع مختلف العلوم فهي تمثل همزة وصل متينة بين هذه العلوم وهي تسخرها جميعا لخدمتها وتأخذ منها ما يخدمها ويميزها عن غيرها وقد شهدت السنوات الأخيرة تحولات كبيرة في المنهج الجغرافي والمحتوى العلمي وكذلك في الأساليب التي يعتمد عليها في تحقيق الأهداف والأغراض ، ولعل من أسباب هذه التحولات أيضا ما طرأ على المحتوى البشري من تطور كبير حيث اصبح الجغرافيون يعالجون مواضيع لم تكن بالأمس معروفة حتى وكأن المتتبع لأعمال الجغرافيين يلمس ذلك الاهتمام المتزايد بالتركيز على دراسة الظواهر والمواضيع الطبيعية والبشرية المختلفة بطريقة تختلف عما كانت عليه في الماضي بفضل استخدامهم للوسائل الكمية المتقدمة في أبحاثهم استعانة بالإحصاء والإعلام الآلي والرياضيات والنماذج والهندسة والطبيعة والكيمياء ، وكان لذلك التطور في استخدام مثل هذه الوسائل نتائج هامة أسفرت عن دفع عجلة الجغرافيا وجعلها علما يتماشى وعصر التكنولوجيا ،حتى أطلق البعض على هذا التحول في استخدام الوسائل والمناهج مصطلح ( الثورة الكمية في الجغرافيا ) ، وهذه الثورة لقيت ترحيبا كبيرا من الجغرافيين لأن للمنهج الكمي مزاياه كثيرة ولعلى أبرزها و أهمها أن النتائج التي يمكن التوصل إليها تكون اكثر دقة بفضل التحليل العلمي لتسلسل الأحداث وهذا التحليل العلمي الجغرافي يبرز النظم التي أثرت في وجود الظواهر المختلفة التي يتعرض لها الجغرافي بالدراسة ، فهو لا يكتفي بالوصف بقدر ما يعتمد على الأسباب التي أنشأت هذه الظواهر
مجالات البحث الجغرافي
حتى تكون الجغرافيا قادرة على تشخيص المشاكل التي تنحصر في إقليم ما، فإنها تقوم بتحديد المجال ، وتشرح العلاقات القائمة بين مختلف العناصر الطبيعية والبشرية مهما تداخلت فيما بينها. و نتيجة لذلك تعتبر الجغرافيا ذات خاصية متميزة إذ نجدها تضع قدما في العلوم الطبيعية وقدما في العلوم البشرية. فإذا كانت التصنيفات الحديثة لمواقع العلوم المختلفة قد تمت سنة 1972 و قسمتها إلي ثلاث فئات هي: العلوم التحليلية التجريبية ، والعلوم التفسيرية التأويلية والعلوم النقدية فالجغرافيا من بين العلوم التي تمتلك خواص كل هذه الفئات . فدراسة المجال الجغرافي تؤكد وجود مكونات كثيرة طبيعية وبشرية مترابطة تتميز بتفاعلات كثيرة تحصل بين هذه المكونات . وهو ما يجعل دور عالم الجغرافيا فيها حساسا ومهما ولذلك نجد دراسة المجال الجغرافي لا تقتصر على موضوع في حد ذاته أو على ظاهرة دون الأخرى و مع أن المجال الجغرافي يشمل كل الظواهر مجتمعة، فإن دراسة هذه الظواهر تبحث منفصلة مع قياس درجات التفاعل والتعليل والتحليل دون إهمال أي عنصر من عناصر المجال . و نظرا لأهمية المجال الجغرافي أقرت اليونسكو منهجية تدريسه في أوربا على تلامذة المستوى الابتدائي في حالته التطبيقية اعتمادا على فهم أو إدراك خمسة أسئلة كما هو موضح فيما يلي: المجال المنتج: إن مجرد اقتراحنا للتلاميذ الاستفسار عن الخطوات التي تتعلق بمفهوم المجال المنتج يعتبر مسلكا نحو إدراك الواقع أي الانتباه إلى أن كل مجال ما هو إلا حالة من أحوال الحركية (أي أنه في حالة إنتاج) وبالتالي هو نتاج لقرارات بشرية (تأثير التدخل البشري). و لهذا يتوجب علينا تعليمهم طرح الأسئلة التالية:
• مـن يُنشئ المجال
• لمن يُنشأ المجال
• لماذا يُنشأ المجال
• متى يُنشأ المجال
• كيف يُنشأ المجال
ومن الضروري أن يلاحظ التلميذ أن هذه الأسئلة الخمسة مرتبطة ببعضها البعض ارتباطا وثيقا بحيث نجد التلاميذ عند محاولتهم الإجابة عن السؤال الأول مثلا يكتشفون و يعرفون بأن هناك عدة فيئاك من الناس يحتمل أن تكون لها يد في هذا الفعل و ضمن إشكالية متكافئة لقدراتهم سيندفعون إلى تحديد و معرفة الفاعل الذي يصدر عنه الفعل (أهو أنا ؟ أهم أفراد آخرون؟ أم مجموعات أخرى أو مؤسسات أو جماعات محلية أم الدولة ؟). و هكذا يتوصل التلاميذ إلى وضع الأسئلة الأساسية التي ترتبط بتقسيم المجال تقسيما اجتماعيا وإدراك المنشأ الحقيقي للمجال ( أي مبادئ العدالة الاجتماعية المجالية)
الجغرافيا العامة و الجغرافيا الإقليمية في المنظور التقليدي
تتنوع الجغرافيا في المواضيع التي تدرسها و الطرق التي تنتهجها. تدرس الجغرافيا جميع المظاهر التي يتصف بها سطح الأرض طبيعية كانت أم بشرية وتنقسم إلى شعبتين أساسيتين متكاملتين اختلافهما قائم على تباين طرق المعالجة و المنهجية. الشعبة الأولى ممثلة في الجغرافيا العامة بكل أنواعها الطبيعية و البشرية و الاقتصادية...الخ و الثانية هي الجغرافيا الإقليمية. الاختلاف بينهما هو أن الأولى تدرس الأنماط و تبحث عن القوانين المتحكمة فيها في حين أن الثانية تعتني بإبراز المميزات التي ينفرد بها كل منظر و كل مركب إقليمي. تحلل الجغرافيا العامة العلاقات و الارتباطات لأنها تضع كل عنصر في قالبه العام خلال الدراسة, غير أنها لا تقارن أي ظاهرة إلا بظاهرة مماثلة لها تذكر تحت نفس العنوان, بينما تختص الجغرافيا الإقليمية بالبحث عن العلاقات و الارتباطات التي تصل بين الظواهر القائمة في الإقليم الواحد و تقارن بينها رغم التباين في طبيعتها و أنماطها و يكون هذا لإبراز الانفراد الذي يتميز به الإقليم مع الأقاليم الأخرى. الجغرافيا الإقليمية هي البحث التركيبي لقطعة من مجال الأرض, و مهمتها ليست بوضع كشف عام لمكونات هذه القطعة بل مهمتها هي البحث عن الطريقة التي نظم بها هذا المجال و كيفية استغلال الإنسان له. الإقليم : يطلق اسم إقليم على مجال من الأرض ينفرد ببعض المزايا و المقومات تجعله وحدة متكاملة و تميزه عما يجاوره من مجالات و يمتد بنفس الدرجة التي تمتد بها هذه الخصائص و هذه المميزات مع العلم أن مفهوم الإقليم نسبي و اجتهادي إن لم نقل ذاتي. نسبي إذا أخذنا بعين الاعتبار أنه لا يوجد على سطح الأرض منطقة تتشابه في كل مقوماتها مع منطقة أخرى مهما صغر حجمها و اجتهادي ذلك لأن الفرد هو الذي يقوم شخصيا بتحديد الإقليم عادة حسب ما يتراءى له من خصائص يقوم عليها هذا التحديد و بقدر تنوع الأسس التحديدية بقدر تنوع الأقاليم نفسها. تتغير الأسس التحديدية إما حسب المكان أو الهدف المرسوم للتحديد الإقليمي إذا وضع التحديد من أجل استغلاله في تصميم مخطط تنمية مثلا فعناصر الاستقطاب المدني أو درجة التطور الاقتصادي أو التقسيم الإداري الذي سيكون الإطار التنفيذي للمخطط هي التي ستتحكم في تعريف الإقليم و كذلك يلعب اتساع الفضاء المدروس دورا هاما في تحديد نظرة الباحث إلى المقومات لأن المقياس المستعمل في وضع البحث يختلف مع اختلاف درجة الاتساع فتدرس الوحدات الشاسعة بمقياس صغير و الوحدات الضيقة بمقياس كبير و الأمر الذي يكون هاما في المقياس الكبير قد لا يصبح كذلك إذا صغر المقياس. فالمقومات التي يستعملها الدارس في تحديد الدراسة الإقليمية لا تتغير مع تغير طبيعة الشيء فقط بل كذلك حسب زاوية النظر التي يختارها و مقياس الدراسة الذي يضعه. و ذكرنا في التعريف أن حدود الإقليم خاضعة للمضمون الذي تحتوي عليه فيجب إذا تحليل هذا المضمون أولا حتى يسهل توقيع حدودا دقيقة تبعا لعناصر الاختلاف أو التشابه. يمكن لكلمة إقليم أن تشير إلى مركب متجانس تكون فيه العلاقات بين مختلف العناصر المكونة له واحدة أو تشير إلى مجموعة من مركبات متجانسة صغيرة تكون الفروق بينها داخل المجموعة أقل من تلك التي تفصلها عما حولها فتكون إقليما متميزا له صبغة إجمالية واحدة تبرزه وسط مجموعات أخرى. و يمكن للإقليم أيضا أن يكون مجموعة منظمة تحت تحكم مركز عمراني يجمع بين وحداتها حتى و لو اختلفت اختلافا كبيرا. الإقليم إذا عبارة عن مركب و دراسته تخضع للبحث التركيبي فيبدأ أولا بتحديد عناصر المركب ثم نوضح العلاقات الكامنة بين هذه العناصر أي أنه يجب الإطلاع على مقومات الإقليم واحدة واحدة ثم إدراك كيفية تأثير كل منها على الأخر
الأقاليم حسب التصنيف الحديث
يعد الإقليم في نظر الجغرافيين الضابط و المجال الأنسب لتنظيم معلوماتهم في شكل قواعد أساسية لأنه يمثل الوجهة الأكثر إقناعا والأقرب إدراكا في حصر الحقائق وكسف العلاقات بين المظاهر المختلفة و العناصر المتنوعة للمركب الجغرافي: عمراني، طبيعي، حيوي، اقتصادي الخ... وأول ما تقوم به الدراسات الإقليميّة هو تعريف الإقليم أو مفهومه الذي يختلف باختلاف الباحثين وأبحاثهم. إذ ليس من السهل الإتيان بتعريف شامل ومحدّد يحصر هذا المصطلح الجغرافي. نجد البعض يعرّفه بالجزء المتميز من سطح الأرض والمنسجم ؛ والبعض الآخر بالوحدة المظهريّة التي تتشكّل من عناصر متكاملة ذات خصائص متشابهة بحيث كلّما ازداد التشابه بين هذه العناصر قلّت الفوارق وازداد الإقليم انسجاما وتجلّت حدوده بينما كلما اختلفت المعايير و القواعد الأساسية المستعملة في التصنيف كلما ازداد تعريف الإقليم التباسا . وهناك من الجغرافيين من يتخذ من المعيار الواحد أساسا للتصنيف و إن كان هذا المعيار في غالب الأحيان مؤشرا جغرافيا (كمؤشّر الملامسة في المورفولوجيا، أو مؤشّر الصرف المائي في الهيدروغرافيا، أو مؤشّر الجفاف في المناخ الخ...). وقد يكون التصنيف الإقليمي مبنيّا على أساس متغيّر واحد كمّي أو وصفي كعنصر واحد من المناخ أو التضاريس أو الغطاء النباتي الخ.... ومنهم من يعتمد في التصنيف الإقليمي على أكثر من معيار واحد، وأبسط عمليات التصنيف هذه تكمن في إدخال معيارين يجمع بينهما في مستوى كارتيزي، يظهر فيه مدى الانسجام والارتباط لتوزيع الظواهر، فمثلا قد نجمع في الغالب ملاحظات أو معلومات كثيرة لخصائص الظواهر ثمّ نتساءل كيف ننظّم هذه المعطيات، أو كيف نصنـّفها حتى تظهر في شكل وحدات متميّزة وأقاليم متباينة.
الخريطة الإقليمية
كيفما كانت التعاريف السابقة الذكر فإن مهمة الخريطة الإقليمية هي تحقيق مبدأين. وضع أمام أعيننا مجموع الصفات التي تتميز بها منطقة ما. و أن تسمح للملاحظ أن يحدد العلاقة الموجودة بين هذه الصفات. والخريطة الإقليمية هي آخر حلقة في سلسلة من الأعمال يقوم بها الباحث انطلاقا من المصادر إلى التحليل و ترتيب المعطيات تحت عناوين محددة. -تقوم الخريطة الإقليمية التركيبية على التبسيط و التعميم دون أن تقع في الانحراف و عدم الدقة و تمثل الإقليم المدروس بواسطة رموز تمكننا من التعرف عند النظرة الأولى على شخصية الإقليم المنفردة وبياناته المميزة بوضوح كما تجعلنا نستطيع اكتشاف جميع الاختلافات الدقيقة إذا أمعنا البصر. يكون دور الخريطة الإقليمية هو تجميع و تنظيم مجموعة من الملاحظات دون أن تكون مجردة للظواهر بل فرزا و ترتيبا لها و تمثيلا للعلاقات الموجودة بينها و بالتالي فإن الخريطة الإقليمية ليست بأداة بحث لأن البحث و خرائط التحليل التابعة له تأتي في المرحلة السابقة لمرحلة وضعها لكنها عبارة عن بحث يجمع لنا بطريقة فريدة من نوعها كل ما يمكن لنا قوله حول الإقليم المدروس
مصادر الخريطة الإقليمية
إن رسم الخريطة الإقليمية كتحرير البحوث أو كتابة المقالات يجب فيه اتباع منهج معين و المرور على عدة مراحل الوحدة تلو الأخرى : كالتعرف على الموضوع و جمع المصادر و المراجع اللازمة , تحليلها و تصنيفها ثم رسم الخريطة . الوقوف على الموضوع : عندما يعزم الباحث على وضع خريطة إقليمية لمنطقة ما يجب عليه أولا أن يتساءل عما يعرفه حول هذه المنطقة و سيجد في غالب الأحيان أن معلوماته جزئية أو تكاد تكون منعدمة فيجدر به إذا أن يطلع بصفة عامة على الإقليم و على المقومات التي يتكون منها ثم إذا حصل على دراية كافية اتجه إلى المراجع المتخصصة و دقق في البحث عن طريق طرح أسئلة متتالية على شكل حوار متواصل بينه وبين المصادر حتى تتبلور نتيجة ذلك صورة متكاملة واضحة للإقليم يوقعها على الخريطة . تشمل النصوص كل ما كتب من مراجع علمية و أبحاث في الجغرافيا العامة و الأبحاث المتخصصة و المقالات المطبوعة في المجلات و غيرها و كثيرا ما تزخر المكاتب العامة و الخاصة بهذا النوع من المراجع بحيث أنه لا يصح للباحث أن يستغني عنها حتى و لو قام عائق اللغة كما هو الحال في بعض الأحيان . يجب الملاحظة هنا أن نظرة الدارس الذي يستعد لتحرير خريطة إقليمية إلى هذه المراجع تختلف بعض الشيء عن نظرة زميله الذي يستعد لكتابة مقال جغرافي لأنه يراعي دائما في اقتناء المعلومات إمكانية توقيع هذه المعلومات على الخريطة و هناك بعض الظواهر نقطية الانتشار يمكن تحديد مواقعها بسهولة و هناك بعض الظواهر الأخرى تتصف بالتوزيع المساحي الذي إذا لم يحدد بدقة في النص لا يمكن توقيعه عن طريق النص وحده و يجب على هذا الأخير أن يكون معززا بخريطة حتى تسهل الاستفادة منه . ومقياس الدراسة مهم هنا كذلك لأن كبر المقياس يتبعه صغر المنطقة المدروسة و إذا صغرت المنطقة قلت المصادر الخرائطية .
تنقسم المصادر الخرائطية إلى قسمين :
1. القسم الأول : مصادر عامة كالأطالس العامة و الخرائط التي تتضمنها المراجع الجغرافية و تتصف المصادر التي تدخل تحت هذا العنوان بدقة ضئيلة في التوقيع و درجة تعميم كبيرة فلا تصلح للاستدلال أو كقاعدة لرسم حدود الخريطة الأساسية.
2. القسم الثاني : يتكون من المصادر العامة التي تشمل الأطالس الوطنية و الإقليمية و الخرائط المرافقة للأبحاث و المقالات المتخصصة و تتميز هذه المراجع بالدقة الكبيرة و كثرة المعلومات بحيث أنه يصعب على الباحث أن يستغلها كما هي في رسم الخريطة الإقليمية و يجب عليه أن يعيد توقيعها بشيء من التلخيص و التعميم.
أما الإحصائيات فنحصل عليها في المنشورات الدولية عامة كانت أو كانت متخصصة بموضع معين و كذلك في المنشورات الوطنية التي تصدرها الوزارات و المؤسسات الحكومية و دور البحث العلمي و نحصل عليها أيضا في المجلات و الأبحاث التي تنشرها الجامعات و الجمعيات العلمية و المهنية المختلفة. تحليل البيانات و تصنيفها يشرع الباحث بعد جمع المصادر في تحليل المعلومات التي تتضمنها و يأتي بالعلاقات الموجودة بين الظواهر ويحدد درجة الاتفاق أو التباين في انتشارها عن طريق المقارنة . وكثيرا ما تدخل العلاقات هذه تحت عنوان الحتمية و يجب على الدارس أن يعرف هذه الحتمية و لا يبالغ في استعماله . إن الحتمية الجغرافية ليست حتمية التربة أو التضاريس أو المناخ فقط بل هي حتمية تفرضها مجموعة من الظواهر الطبيعية التي إذا اجتمعت وتراكبت بدرجات متفاوتة كونت لنا وسطا خاصا و بيئة معينة , فحذري إذا من الاستنتاجات السريعة و قلة التمعن في العلاقات الظاهرية و الارتباطات السطحية الخادعة . ويجب الملاحظة أن الارتباط لا يكون فقط بين العنصر الطبيعي من جهة و العنصر البشري من جهة أخرى بل أيضا بين مختلف المظاهر المكونة لكل عنصر . و لا تأتي صعوبة رسم الخريطة الإقليمية من قلة البيانات و العلاقات الواصلة بينها لكنها بالعكس كثيرا ما تأتي من هذه المعلومات و هذه العلاقات حتى أن الباحث يحتار فيما سيقعه و ما سيتركه , فهناك عملية اختيار و انتقاء يجب القيام بها . نبدأ هذه العملية بتحديد ما سيدخل في تكوين شخصية الإقليم المدروس فنحتفظ به و نتنازل عما ليس له أهمية أساسية في هذا الميدان . ولا يمكن أن يكون اختيار المقومات عفويا يرجع إلى محض الصدفة بل يجب على الباحث أن يتصور الخريطة قبل رسمها و ينطلق من هذا التصور. و ليست هناك طريقة خاصة معينة للقيام بعملية الاختيار لأن ذلك لا يكون إلا ببعد الاطلاع على ماهية الإقليم ليسمح هذا الاطلاع بتحديد العلاقات التي يجب توقيعها حتى تبرز وحدة الإقليم و تباينه عما يجاوره . قد يكون الاختيار جبريا أي أننا نعلم من أول وهلة أن ظاهرة معينة (طبيعية أو بشرية ) لا تعد من مقومات الإقليم فلا نهتم بها . كما يرتبط الاختيار في كثير من الأحيان بمقياس البحث و وجوه الاختلاف الموجودة في منطقة صغيرة لا تكون ناتجة عن النظام المناخي السائد بها و ليس صحيحا إذا أن نعطي أهمية فائقة لعنصر المناخ في تقويم هذا الإقليم . و يفرض كبر مقياس الخريطة أيضا نوعا آخر من الاختيار فإذا صغرت المساحة قلت البيانات و تفاوتت درجة الدقة فها فلا نختار إلا المعلومات المتجانسة التي تتسم بدقة كافية . و تسهل عملية الاختيار بفرز المعلومات و ترتيبها تحت عناوين واضحة و يكون الفرز على جميع المستويات اللازمة , حسب الميدان الطبيعي و الميدان البشري أولا ثم داخل عناصر كبيرة في هذين الميدانين و أخيرا ضمن الأنماط التي تتكون منها العناصر الكبيرة . ويمكن أن تكون عملية ترتيب البيانات على الطريقة التي اتبعت في الفرز دون أن يكتفي بها بل يراعي أيضا أسسا أخرى تشمل البنية و العلاقات التاريخية و نشأة الظاهرات و نوعية التطور الذي تتصف به , فلا يكون الترتيب سطحيا واسميا فقط بل عميقا و يأتي عن تمعن في شخصية الإقليم (أي ترتيبا جغرافيا بمعنى الكلمة) يأخذ بعين الاعتبار كل ما يدخل في وصف بيئة معينة. و بالترتيب هذا تبدأ عملية الشرح و التركيب التي تتضمنها الخريطة الإقليمية و هي الطريقة الوحيدة التي تسمح بتوقيع حقيقة الإقليم المعقدة ببساطة و دون غموض.
الصفات التي تتميز بها الخريطة الإقليمية
إن الخريطة الإقليمية ليست بلوحة فنية و لا تتطلب من وضعها معرفة كبيرة لنقد الرسم, إنها مجرد وسيلة تعبيرية شأنها شأن الرسوم الهندسية التي يستعملها علم الهندسة و يكفي لتحقيقها أن توفر بعض الشروط وتطبيق بعض القوانين.
الوضوح و سهولة القراءة يلعب هذا الشرط دور أساسيا في رسم الخريطة الإقليمية و يكون الوضوح في الشكل العام للخريطة كما يكون في الجزئيات و التفاصيل ، إذ لجب أن تبرز لنا الخريطة أهم العناصر المكونة للإقليم من أول نظرة كما يجب أن تمكننا من الإطلاع بصورة واضحة على أدنى جزء منها. و يأتي الوضوح من النظافة في التنفيذ قبل كل شيء فيجب رسم المستقيمات بالمسطرة و الدوائر بالفرجار و تنظيف الخريطة من أي نقطة و محو جميع الخطوط الثانوية التي تستعمل عادة لتوقيع الخريطة "شبكة المربعات المستعملة لتغيير مقياس رسم الخريطة مثلا " كما يتجلى الوضوح في حسن اختيار الرموز حتى إذا ركبت واحدة على الأخرى لا ينتج غموضا من ذلك التركيب أما سهولة القراءة فتأتي من الاقتصاد في استعمال الرموز و حسن اختيارها و الصعوبة تزداد مع تعدد الرموز و كثرة تنوعها كما يلعب مقياس رسم الخريطة دورا مهما في تعيين درجة الدقة التي ترسم بها الرموز حتى لا تتداخل و تطمس الخريطة لكنه لا يسمح للوضوح أن يكون على حساب وفرة المعلومات لأننا لا نستطع وضع صورة تركيبية ذات قيمة كبيرة بتوقيع بيانات قليلة. فإن لم تسمح لنا الخريطة بإعطاء جميع المعلومات عن الإقليم فلها على الأقل أن تبرز لنا أكثر الأمور عنه .
التبسيط و التعميم ومما سبق ذكره يتبين أن التبسيط و التعميم شرط وجب توفره في الخريطة مهما كبر مقياس رسمها و يكون التعميم و التبسيط سواء في مستوى رسم الخطوط الأساسية للخريطة " من سواحل و أنهار و طرق " أو في مستوى توقيع البيانات التي قررنا الاحتفاظ بها . و نقصد بالتعميم بساطة الرسم خاصة . فكثرة الدقة بدون لزوم تنقل الخريطة و تطمس معالمها الأساسية . و درجة التعميم تكون تابعة لأهمية الظاهرة الموقعة فنكتفي بمجرد التلميح بظاهرة معينة لأنها تلعب دورا ثانوي في حين أننا نوقع ظاهرة أخرى ذات أهمية بالغة بكثرة من التفصيل فقضية التعميم نسبية إذا و لا يصح التفصيل أو المبالغة فيها كما لا يصح التعميم أن يكون على حساب الدقة أو صحة توقيع البيانات لأنه يجب على الخريطة أن تعطي صورة صادقة على الإقليم رغم بساطة التمثيل و تعميم البيانات فيها و يتطلب درجة كبيرة من الدقة في التفكير لأنه أمر يصعب الحصول عليه. الدقة تكون الدقة في التوقيع و جلب المعلومات الصحيحة ، فالبيانات الموقعة في غير مكانها تغير مدلول العلاقات الناجمة من التركيب كما تشوه المعلومات المزيفة لشخصية الإقليم المدروس ، فيجب على الباحث أن يكون أولا: دقيقا في اقتناء معلوماته و ثانيا: في تحليل البيانات و ثالثا: في توقيع الظواهر. و الدقة في اقتناء المعلومات هي أن يبحث على البيانات الصحيحة الحديثة و يتحقق من صحتها . فلا يجوز له أن يستغل إحصائيات السكان لسنة 1967 و يترك إحصائيات سنة 1998 مثلا كما أن الدقة في تحليل البيانات هي ألا يكتفي بالظاهر و يترك الكامن و يسرع في الاستنتاج عندما يكون التعميم أمرا ضروريا أما الدقة في التوقيع فتقوم على اختيار الرمز المناسب من جهة و توقيعه في المكان المعين له من جهة أخرى . التعبير نقصد بالتعبير شرط اختيار الرموز المناسبة لكل ظاهرة بحيث تتوفر فيها صفات تجعل الخريطة ناطقة يسهل الوقوف عما تتضمنه و تخص هذه الصفات شكل الرمز و حجمه فالشكل بما فيه اللون يوحي لنا بطبيعة الظاهرة الموقعة أما الحجم فيبرز أهميتها بين مقومات الإقليم .
على فكرة الموقع هو ويكيبيديا الموسوعة الحرة
السبت، 15 أغسطس 2009
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق